التفاعل الملكي مع « فضيحة الفراقشة »؟!
مرة أخرى لم يتأخر ملك البلاد محمد السادس كما عودنا على ذلك في تفاعله الدائم مع أهم القضايا التي تشغل بال المواطنات والمواطنين المغاربة في جميع جهات المملكة، حيث أبى إلا أن ينهي الجدل الدائر حول ما بات يعرف إعلاميا ب »فضيحة الفراقشية »، التي أثارت ضجة عارمة وأسالت الكثير من المداد في الشهور الأخيرة، من خلال استغلاله الاجتماع الوزاري الذي انعقد يوم الاثنين 12 ماي 2025 بالقصر الملكي في الرباط، لإصدار تعليماته السامية بتأطير عملية إعادة تكوين القطيع الوطني. وهو ما يستشف منه سحب البساط من تحت أقدام وزير الفلاحة أحمد البواري، وتكليف وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت بمهمة توزيع الدعم على الفلاحين بدون تمييز…
ذلك أنه وبعدما كشف نزار بركة وزير التجهيز والماء والأمين العام لحزب الاستقلال، أحد مكونات التحالف الحكومي الثلاثي، عن فضيحة صفقات استيراد رؤوس الأغنام والأبقار في برنامج حواري تبثه القناة الوطنية الأولى، حيث صرح حينها أمام عشرات الآلاف من المشاهدين، بأن مستوردي الأضاحي إبان فترة عيد الأضحى في السنة الماضية 2024 حققوا أرباحا خيالية فاقت 13 مليار درهم، مما فجر موجة من الغضب الشعبي على منصات التواصل الاجتماعي، وتساءل مواطنون ونشطاء كثر عن هوية الأشخاص ال »18″ المستفيدين من هذه « الوزيعة »، وطالبوا بالكشف عن أسمائهم والجهات المانحة للتراخيص والامتيازات الكبرى لعملية الاستيراد، مستثنية الفلاحين الصغار، ودون أن تحقق أهدافها عبر الانعكاس الإيجابي على المواطنين، حيث ظلت أسعار اللحوم الحمراء والأضاحي حارقة.
فقد استنكر الكثير من المواطنين والملاحظين أن يذهب الدعم إلى جيوب مضاربين لتحقيق أرباح غير مشروعة على حساب المواطنين، وخاصة أن الدعم العمومي تحول إلى عبء إضافي على المال العام، دون أن يكون لذلك أي أثر على السوق. وأن تقف الحكومة مرة أخرى عاجزة عن مكافحة الفساد ومساءلة المستفيدين، وهي ترى ما حدث من تلاعب بالدعم العمومي وانعدام تكافؤ الفرص والمنافسة الحرة. إذ اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن تكلفة استيراد الماشية فاقت 13 مليار درهم، وأن المستفيدين الفعليين لا يمثلون عدا نسبة 10 في المائة من مجموع مقدمي طلبات الاستفادة، وهو ما يعكس احتكارا واضحا من قبل فئة محدودة لذلك الدعم العمومي الضخم، بينما حرم منه مهنيو قطاع تربية المواشي من الأسر الفلاحية الصغيرة، التي وحسب المعطيات الرسمية المتوفرة لا يتجاوز عددها 600 ألف أسرة.
وفي الوقت الذي ما انفك فيه الجدل يتصاعد وما ترتب عن ذلك من انتقادات حادة للحكومة بخصوص تشجيع الفساد وعدم ربط المسؤولية بالمحاسبة، ولاسيما في ظل تضارب الأرقام والتصريحات حتى من داخل الحكومة. ومباشرة بعد الإعلان الرسمي عن القرار الملكي الداعي إلى تعليق ذبح الأضاحي خلال هذه السنة 2025 بسبب ارتفاع الأسعار والتحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن توالي سنوات الجفاف العجاف وتأثيرها على القطيع الوطني، بادرت مجموعة من البرلمانيين في مجلس النواب إلى إطلاق مبادرة نيابية، تهدف إلى التعجيل بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول ملف الدعم الحكومي لاستيراد المواشي، مطالبة بفتح تحقيق برلماني شفاف وإحالة أي تجاوزات على النيابة العامة، لأن هذه اللجنة هي الكفيلة بإظهار الحقيقة، بدل الاكتفاء بلجنة استطلاعية لطمس الحقائق وإخفائها، متسائلين عن جدوى الدعم الحكومي في غياب الآليات الموضوعية في توزيعه وعدم استفادة المواطنين المستحقين له منه؟
لأجل ذلك كله وفي انتظار أن تتكشف الأمور وتتضح الرؤية جيدا، ارتأى ملك البلاد بحكمته المعهودة ورؤيته المتبصرة ووفق ما ورد في بلاغ للديوان الملكي، أن يشدد على ضرورة إنجاح عملية إعادة تكوين القطيع الوطني من جميع الجوانب، مع ما يلزم ذلك من معايير المهنية والحياد، وضمان مرور عملية الدعم تحت إشراف مباشر وشفاف من لجان تابعة للسلطات المحلية، بعيدا عن الشبهات. وهو ما اعتبره مهتمون بالشأن العام كثر تفويتا ملكيا للاختصاص، بما يحمله من دلالات عميقة في اتجاه التصدي للمفسدين وسد الطريق أمام « الشناقة » الذين ما فتئوا يراكمون أرباحا هائلة ولا أخلاقية دون حسيب ولا رقيب.
وبصرف النظر عن هذه الفضيحة التي مازالت تستأثر باهتمام الرأي العام الوطني، ومازال صداها يعم أرجاء البيوت والمقاهي والمطاعم ومقرات العمل، فإنه بات لزاما على مدبري الشأن العام التقاط الإشارات الواضحة التي حملها مضمون بلاغ الديوان الملكي في الشق المتعلق بإسناد مسؤولية الإشراف على توزيع الدعم العمومي لوزارة الداخلية عوض وزارة الفلاحة، واستخلاص الدروس والعبر من ذلك.
ويكفي العودة هنا بالذاكرة قليلا إلى الوراء في السنة الماضية تحديدا، للتمعن في أبعاد الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في أشغال النسخة الثانية من المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة، التي احتضنتها مدينة طنجة يومي 20 و21 دجنبر 2024 تحت شعار « الجهوية المتقدمة بين تحديات اليوم والغد »، لتدرك حكومة عزيز أخنوش التي لم تتخذ إلى الآن أي خطوة حقيقية في اتجاه حماية المال العام، مدى حرص عاهل البلاد على تعزيز مبادئ تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد بمختلف أشكاله، من خلال تطوير فلسفة الرقابة والمحاسبة، والسهر على تفعيل المقتضى الدستوري « ربط المسؤولية بالمحاسبة ».